التجارة الغيبية

  • التجارة الغيبية

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:

فيقول نبي الهدى محمدٌ صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو فبائعٌ نفسه فمعتقها، أو موبقها).

ففي هذا الحديث يُبيِّن النبيء صلى الله عليه وسلم أن الناس في هذه الحياة الدنيا غادون مستغرقون في أمورها، ولكنهم بين إحدى حالين، حينما يبيع الواحد منهم نفسه، فإما أن يُعتقَها من عذاب الله تعالى وسخطه، إلى رضوانه وجنته ونعيمه، وإما أن يُوبقها بأن يُهلك هذه النفس، ويجعلَ عاقبتَها إلى خسرٍ في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ ولذلك أخبر الله جل وعلا في كتابه الكريم أن من عباده من عقدوا الصفقات معه جل وعلا، صفقاتِ الربح والفوز والفلاح، بخلاف أُناسٍ باعوا أنفسهم للضلال والانحراف والهوى.

 يقول الله جل وعلا مُخبرًا عن عباده المؤمنين الذين ابتغوا رضوانه، فباعوا أنفسهم لهم جل وعلا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة: 111]، ويقول الله جل وعلا: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207].

 وأخبر سبحانه عن أن هذه التجارة مع الله جل وعلا حينما يريد بها المؤمنُ رضا الله، أنها تجارةٌ رابحة، وأن عاقبتها إلى خير؛ يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [الصف: 10، 12].

 وعند هذه الآية الكريمة من سورة البقرة، أتوقف معكم في بعض دلالاتها، وما ينبغي للمؤمن في ضوئها؛ حيث يقول سبحانه: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾، فالله سبحانه لما أخبر عن الفئة السابقة وهم المنافقون بصفاتهم الذميمة؛ حيث قال الله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 204 - 206].

 لما ذكر الله صفات هذه الفئة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة، فقال مُمتدحًا لهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾، وتأمل هذا التعبير القرآني: ﴿ يَشْرِي نَفْسَهُ ﴾؛ بمعنى - كما قال المفسرون في هذا المقام - البيع، فهو يبيع نفسه كلَّها لله جل وعلا، ويُسلمها كلها، لا يستبقي منها بقية، فكل حياته لله جل وعلا؛ في كل لحظةٍ، وكل سكون، وفي كل حينٍ، وفي كل تصرُّف، ولا يرجو من وراء هذا البيع لله جل وعلا غايةً إلا مرضاةَ الله سبحانه، ليس له فيها شيء، وليس له من ورائها شيء، بيعةٌ كاملة لا تردُّد فيها، ولا تلفُّت لتحصيل ثمنٍ من أثمان الدنيا، ولا استبقاءَ بقيةٍ لغير الله جل وعلا، وإنما يبيع نفسه كلها لله سبحانه.

 وقد جاء في بعض الروايات بيانُ سبب نزول هذه الآية، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: "نزلت في صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة، منعه الناس أن يهاجر بماله، وكان ذا مالٍ يُتاجر به، فلما اعترضوه عرَض عليهم عرضًا، وقال لهم رضي الله عنه: "إنكم لتعلمون أني من أشد الناس إصابةً في الرمي والسهام، فإن شئتم أن أُخلي بينكم وبين مالي، وتُخلوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهاجر إليه، وإما أن أنثر كِنانتي وأرميَكم سهمًا من وراء سهم، ثم أبارزكم بالسيف"، فخلوا بينه وبين الهجرة، وأخذوا كل ماله الذي استبقاه لوجه الله جل وعلا، فلما أقبل على المدينة، قابله الصحابة منهم أبو بكرٍ رضي الله عنه وقال له: "ربح البيع صهيب، ربح البيع صهيب".

وجاء في روايةٍ أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال له:  (ربح البيع.. ربح البيع).

 فتأمل أنها مبايعةٌ مع الله جل وعلا، ترَك ماله، وترك كل ما جمَع، يبتغي بذلك وجه الله:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207].

 فهؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم، وأرخصوها لوجه الله جل وعلا؛ طلبًا لمرضاته، ورغبةً في ثوابه، فهم بذلوا الثمن للمَولى الوَفِي لله جل وعلا الرؤوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته سبحانه أن وفَّقهم لذلك، وقد وعد الوفاء على هذا، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة: 111].

ويدخل في هذا البذل وفي هذا التوجُّه نحو الله تعالى والصفقةِ معه كلُّ مشقةٍ يتحملها الإنسان في طلب الدين، فيدخل في ذلك المجاهدُ في سبيل الله، فهو ذِروة سنام الإسلام، ولذلك كان جزاؤه أعظمَ الجزاء وأوفاه؛ ويدخل في ذلك أيضًا الباذلُ مُهجتَه الصابر على القتل، حينما يُلجأ إليه في مقابل دينه؛ كما فعل أبو عمار ياسر وأمه سمية، وكما فعل ياسر رضي الله عنهم.

 ويدخل فيه أيضًا المشتري نفسه من الكفار بماله؛ كما فعل صهيبٌ رضي الله عنه، ويدخل فيه أيضًا من يُظهر الدينَ والحق، وينشره بين الناس مهما واجَه في ذلك من الصعاب، وكلٌّ بحسبه، وبقدر ما صنَع، فإن الله تعالى يَجزيه الجزاء الأوفى.

ومن هنا أيها الإخوة في الله، ينبغي على الإنسان أن يُراجع نفسه، وأن ينظر في مسعاه في هذه الحياة الدنيا، وفي تجارته.

فانظر يا عبد الله على أي حالٍ أنت غادٍ، وفي أي مجالٍ أنت ساعٍ، هل هو فيما يرضي الله جل وعلا، تأمَّل حسناتك وسيئاتك، تأمَّل الطاعات التي افترض الله عليك، هل أنت آتٍ بها كما أمر الله جل وعلا، تأمَّل أمور هذه الحياة الدنيا وتكاليفَ معيشتها، هل أنت قائمٌ بها كما أمر الله سبحانه وتعالى.

إن مفهوم التدين ومفهوم الصفقة مع الله جل وعلا شاملٌ لكل لحظات حياتك، ولكل توجهاتك، إنه ليس أمرا مختصا بالعبادات المحضة، ولكنه في كل لحظات حياتك؛ في أكلك وشربك، في عملك وعموم مساعيك.

أيها الإخوة الكرام، إن فترة هذه الصفقة مع الله جل وعلا، هي هذه الحياة التي نعيشها، والله جل وعلا قد قدَّر لكل واحدٍ أجلَه، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعةً ولا يستأخرون.

         ولك أن تتأمل ولله المثل الأعلى، لو أن تاجرًا من تجار الدنيا من أصحاب الثروات الكبرى، جاء إليك وقال: إني أريد أن أتاجر معك بمبلغٍ قدره كذا وكذا مليار، فقلت: لا أملك، كيف أتاجر معك وكيف أدخل معك في صفقةٍ لا أملك ولو شيئًا يسيرًا منها؟

فيقول لك: هذا مليار، خذه وتملَّكْه، ثم تدخلُ معي في التجارة، فإنك تستعظم هذا، وتعُدُّه شيئًا عجيبًا غريبًا، ولله المثل الأعلى أن الله تعالى منحك أعظم من ذلك، هذه الحياة الدنيا كلُّها، هذه الروح والنفس الذي تتردد بين جنبيك، إلى غير ذلك من أنواع النعم، ثم كلفك ربك باليسير، عبادةٌ تستقيم عليها، وطاعةٌ لا تُفارقها، ومع ذلك كان من شروط هذه الصفقة أن الله يقول لك إن أخطأت ولم تقم بما أوجبتُ عليك، فإني لا أؤاخذك ولا أعاجلك، فإن لك مجالاً لأن تصحِّح من وضعك، وتعودَ كما كنت، بل إنك إذا صححت وضعك عدت إلى حالٍ أفضلَ من التي كنت عليها؛ كما يدل عليه قول الله جل وعلا: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].

 أيها الإخوة الكرام، هذه هي التجارة الرابحة، التجارة الغيبية التي غفل عنها كثير من الناس، وهي الصفقة النافقة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمن، وألا يضيع حياته في أمور الحياة الدنيا على نحو يُسخط الله جل وعلا، ويجعله في نهاية الأمر في خسرانٍ مبين.

 أسأل الله تعالى لي ولكم حُسن العاقبة والتجارة الرابحة في الدنيا والآخرة.

 نفعني الله وإياكم بهدي القرآن الكريم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه تجدوه غفورا رحيما.

 

الخطبة الثانية

 

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ، هَدَى المُؤْمِنِينَ إِلَى الحَقِّ المُبِينِ، وَجَعَلَ آمَالَهُمْ مُعَلَّقَةً بِمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الدِّينِ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ الأَمِينُ، سَيِّدُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَإِمَامُ النَّبِيِّينَ وَالمُرْسَلِينَ، صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أما بعد:

التجارة مع الله عز وجل نوع خاص من التجارات، تفترق عن سائر التجارات في الدنيا؛ لأنها معاملة بين العبد الفقير الضعيف المحتاج، والرب الغني القادر القاهر.

فكل أحد من الناس يريد أن يعامل غيره من أجل أن يربح منه، فهي معاملة بين فقير وفقير، وبين محتاج ومحتاج، فكل الناس يريدك لنفسه، والله عز وجل يريدك لك؛ لأن الله تعالى غني عنك وعن طاعتك وعن عبادتك: (لو أن الخلق كلهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم، ما زاد ذلك في ملك الله عز وجل شيئاً، ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم، ما نقص ذلك من ملك الله عز وجل شيئاً).

فالله عز وجل يريد منا أن نعامله من أجل أن نربح نحن أعظم الأرباح، والله غني عنا وعن طاعتنا وعن عبادتنا.

والفرق الثاني بين تجارة الدنيا والتجارة مع الله عز وجل: أن تجارة الدنيا عرضة للمكسب والخسارة، قد تكسب مرة وتخسر مرة، أو تكسب مرات، وتخسر مرة، أما التجارة مع الله عز وجل فلا تبور بحال من الأحوال، وليس هناك احتمال للخسارة بحال من الأحوال: (يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر:29].

فهكذا التجارة مع الله عز وجل لا تبور بحال من الأحوال.

والفرق الثالث بين تجارات الدنيا والتجارة مع الله: أن تجارة الدنيا الأرباح فيها محدودة، والسلع قد تربح فيه (10%) أو (20%) غاية الأمر (100%) أو (200%)، فالدينار يربح دينارا أو دينارين، ولكن لا يمكن أن توجد تجارة في الدنيا الدينار فيها يربح سبعمائة دينار، لا يمكن أن توجد مثل هذه التجارة، ولكن تجارة الآخرة يقول عز وجل فيها:( مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) [البقرة:261].

إذاً: فيها أرباح عظيمة جداً.

الفرق الرابع: أن تجارة الدنيا قد يَدخلها الغش، وقد تكون هناك سلعة معيبة ويدلسها صاحبها ويخفي ما بها من عيب ويروجها فتروج.

أما التجارة مع الله عز وجل لا يمكن أن يدخلها الغش؛ لأن الله عز وجل بصير.. خبير.. عليم، فلا يمكن أن يدخل في التجارة مع الله عز وجل الغش.

التجارة مع الله عز وجل نوع خاص من التجارات.

وأكثر الناس يعرف كيف يتاجر في الدنيا، ولكن القليل منهم من يعرف كيف يتاجر مع الله عز وجل، فنحتاج أن نتعرف على فقه التجارة مع الله عز وجل.

فمن فقه التجارة مع الله عز وجل أن يستصحب العبدُ الإخلاص في كل قول وعمل؛ لأن الله تعالى اشترط الإخلاص، فقال:  (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر:3].

وقال: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة:5].

فينبغي أن نستصحب الإخلاص في كل عبادة، وفي كل قول وعمل.

ومن فقه التجارة مع الله عز وجل: أن يتاجر العبد بالمباحات مع الله عز وجل؛ لأن العمل المباح لو توافرت فيه نية صالحة فإنه يصير من الطاعات، ومن القربات، فلو نام العبد بنية صالحة من أجل أن يقوم من آخر الليل، أو يقوم لصلاة الفجر وأذكار الصباح، فإنه يؤجر على ذلك.

فالذي يسعى للمعاش يسعى من أجل أن يكفي نفسه وأولاده ذل السؤال، ومن أجل أن يقوم بالواجب عليه من النفقة على زوجته وأولاده، فكل عمل مباح يستطيع العبد أن يستحضر فيه نية صالحة، فيصير من القربات والطاعات، فيتاجر العبد بالمباحات مع الله عز وجل.

كذلك أن يستحضر العبد في العمل الواحد نيات كثيرة صالحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

ومن فقه التجارة مع الله عز وجل: أن يتأكد العبد أن أعماله وأقواله مطابقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

ومن فقه التجارة مع الله عز وجل: أن يحفظ العبد أعماله الصالحة، فالعبد قد يعمل عملاً صالحاً موافقاً للسنة تتوافر فيه شروط الصحة، ثم يمن بهذا العمل، أو يؤذي من أدى إليه خدمة ويمن عليه، أو يصاب بشيء من الكبر أو العجب أو الرياء فيحبط بذلك عمله الصالح، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264].

فالمسلم ينبغي عليه أن يجتهد في أن يحفظ أعماله الصالحة من محبطات الأعمال، حتى يجد ثواب هذا العمل مذكوراً موفوراً عند الله عز وجل يوم القيامة.

ومن فقه التجارة مع الله عز وجل: أن يداوم العبد على العمل الصالح، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل)؛ لأن العمل الدائم وإن كان قليلاً، فإنه يصير كثيراً بالمداومة عليه، بل يربو، ويكون أكثر من الكثير المنقطع، والله تعالى يحب أن يديم فضله وأن يوالي إحسانه، فيحب الله عز وجل من العبد أن يدوم على العمل الصالح حتى يدوم عليه الفضل منه عز وجل.

ومن فقه التجارة مع الله عز وجل إذا قطع حبلَ الوصل بغفلة أو معصية أن يعود بالتوبة والإنابة والإخبات والمداومة على العمل الصالح مرة ثانية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).

أيها الإخوة المؤمنون: إن مهر المحبة والجنة بذلُ النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، فوالله ما هزلت فيستأمها المبطلون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق لمن يريد، فلم يرض لها ربُّها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون، وقام المحبون، ينتظرون أيهم يصلح أن تكون نفسه الثمن، فدارت السلعة في أيديهم، ووقعت في يد أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.

لما كثر المدعون للمحبة، طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم، لادعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ )[آل عمران:31].

فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، فقيل: لا تقبل هذه البينة إلا بتزكية: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [المائدة:54].

فتأخر الخلق كلهم، وثبت المجاهدون، فقيل: إن نفوس المجاهدين وأموالهم ليست لهم: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، والعقد يوجب التسليم من الجانبين، لما رأى التجار عظمة المشتري وقدر الثمن، وجلالة قدر من وقع التبايع على يديه، علموا أن للسعلة قدراً وشأناً، فرأوا من الغبن الفاحش والخسران البين أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة، تذهب لذتها، وتبقى تبعتها، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان، فقيل لهم: إن نفوسكم وأموالكم قد صارت إلينا، والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

لقد حرك الداعي إلى الله عز وجل وإلى دار السلام النفوس الأبية، وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، وأسمع الله من كان حياً، فهزه السماع إلى دار الأبرار، وحدا به في طريق سيره، فما حطت رحاله إلا بدار القرار.

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُصلِحَ لَنَا الأَعْمَالَ وَالنِّيَّاتِ، وَالأَزْوَاجَ وَالذُّرِّيَّاتِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُمْ قُرَّةَ أَعْيُنٍ فِي الحَيَاةِ وَبَعْدَ المَمَاتِ. 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا واهد شبابنا وخذ بأيديهم لما فيه عزهم وعز أمتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا أسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.

اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.

إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، إن الله وملائكته يصلون على النبيء يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما، فصلوات ربي وسلامه على حبيبه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

خطبة الجمعة ألقاها الأستاذ يوم 25 ذي الحجة 1436 هـ/ 09 أكتوبر 2015.

لايوجد تعليقات

أضف تعليقا للموضوع : التجارة الغيبية