الإتقان ثمرة الإحسان

  • الإتقان ثمرة الإحسان

الخطبة الأولى

الحمدُ لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضَّالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، أحمدهُ سبحانه حمد عبد نزه ربه عما يقول الظالمون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له،  وسبحان الله رب العرش عما يصفون.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله الصادقُ المأمون، اللهمّ صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين هم بهديه مستمسكون، وسلِّمْ تسليماً كثيراً، ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ[ ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[ ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[.

أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون: حديثي إليكم في هذه الخطبة سيتركز على قيمة الإتقان الذي هو ثمرة الإحسان.

يقول الله تعالى: )صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ([النمل: 88] ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:) إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه( فهناك علاقة متداخلة بين الإتقان والإحسان، غير أن الإتقان عمل يتعلق بالمهارات التي يكتسبها الإنسان، بينما الإحسان قوة داخلية تتربى في كيان المسلم وتتعلق في ضميره وتترجم إلى مهارة يدوية أيضاً، فالإحسان أشمل وأعم دلالة من الإتقان، ولذلك كان هو المصطلحَ الذي ركز عليه القرآن والسنة.

فالإحسان هو أعلى مرتبة دينية وأرقى فضيلة شاملة لمعاني الخير، يرشد إلى ذلك حديث جبريل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام، ثم سأله عن الإيمان فذكر النبيء صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان، ثم قال: « ... فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ  ..» والشاهد في الحديث أن جبريل بدأ يتدرج في السؤال من الأدنى إلى الأعلى، فكان الإحسان هو أرقى مقام ديني؛ حيث يشمل الإيمانَ والإسلامَ وزيادة، وقد جاءت الآيات الدالة على سمو مقام الإحسان بالنسبة لغيره من مراتب الدين، يقول الله سبحانه وتعالى: )لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(  فالآية صريحة في التدرج من التقوى والإيمان إلى درجة الإحسان، وهي المقام الذي يحبه الله سبحانه وتعالى؛ لذا يعطي صاحبَه ما لا يعطي لغيره، يقول الله سبحانه وتعالى:) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(  ولئن كان للمؤمن جزاء الحسنى وهي الجنة، فإن للمحسن الحسنى وزيادة؛ لأن الإحسان يتضمن الإيمان وزيادة، وهو من هذه الوجه يعتبر فضيلة شاملة لكل معاني الخير، وقيمةً سياديةً ووعاءً فضفاضا يستوعب كثيراً من المعاني والقيم الخلقية،  فالكرم والإيثار، والتجاوز عن هفوات الآخرين، وكظم الغيظ، والعفو، ومقابلة السيئة بالحسنة، ومقابلة الغير بالبشاشة، واللين في القول، والرفق في المعاملة، وإقالة العاثر،  وغيرُها من المعاني تدخل ضمن وعاء الإحسان إما أصالة أو بالتبع، إضافة إلى غير ذلك من قيم أخرى تدخل بالتبع بحسب درجة الفعل من حيث الوجوبُ وعدمُه من ذلك إغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، وأيضاً بعض حالات صلة الرحم التي يوقعها الفرد مع من قطعوه وأساؤوا إليه، كذلك يدخل الإنفاق غير الواجب في دائرة الإحسان، وغيرُ ذلك من القيم الخلقية.

ولأهمية هذه القيمة طالب الله عباده بها، فيقول الله سبحانه وتعالى:)إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( فهذه أجمع آية في القرآن الكريم في بيان الخير والشر؛ وفي جانب الأمر كان العدل والإحسان؛ لأن بهما تنتظم كلُّ فضيلةٍ متصورةٍ في الوجود، وتقديمُ العدل على الإحسان في الآية لا يقصد به أن العدل أرقى فضيلةٍ من الإحسان، بل الغرض منه الابتداءُ بالمقدار الواجب، أو ما يعرف بالحد الأدنى ثم التدرج منه للأعلى؛ لأن الإحسان من حيث الفضيلة هو فوق العدل؛  فمضمون العدل ومقتضاه أن يعطي المرء ما عليه ويأخذَ ما له، أما الإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له؛ لذا هو أرقى مقاماً من العدل؛ ومن هذا الوجه يعتبر تحري العدل من باب الواجب لأنه يمثل الحد الأدنى المتوقع، وتحري الإحسان من باب الفضل والندب والتطوع لأنه زيادة على المقدار الواجب.

كما جاء الأمر بالإحسان شموليا، ونقصد بذلك أنه أمر رباني يستغرق كل تصرف بشري، يرشد إلى ذلك قول النبيء صلى الله عليه وسلم:)إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ(  فالحديث صريح بأننا مطالبون بالإحسان في كافة أفعالنا وتصرفاتنا على وجه العموم ولو صغرت، وهذا إن أشار إلى شيء فإنما يشير إلى مدى حيوية هذه القيمة وعلوها وسياديتها في رسالة الإسلام.  

ولهذا وُصف نبيء الله يوسفُ بالإحسان خمس مرات في سورته:

  • )وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ( [يوسف: 22].
  • )وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ( [يوسف: 36].
  • )وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ([يوسف: 56].
  • )قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ( [يوسف: 78].
  • )قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ([يوسف: 90].

والنتائج الجيدة التي حصل عليها يوسف عليه السلام في نهاية الأمر على المستوى الفردي والجماعي تعود أصلا إلى صفتي الإحسان والإتقان اللتين تحلى بهما هذا النبيء الكريم.

أسأل اللهَ لي ولكم الثباتَ حتى الممات، وأسأله أن يرزقنا صفة الإحسان والإتقان في كل تصرفاتنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله القائل: )صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ([النمل: 88] ووضح فيه معالم التفوق والتألق، وبيّن فيه أسباب التمكين والتطور، فهو الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، بيده ملكوت كل شيء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والصلاة والسلام على أحسن من عرف الله وعبده، وأتقن إدارة حياته سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الوعد الأمين، أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: يعتبر الإتقان ثمرةً للإحسان، فإتقان العمل قيمة عظيمة أكد عليها الإسلام، وإن الله سبحانه وتعالى أبدع الكون حولنا بدقة وإحكام، كي نأخذ من ذلك العبرة في جميع أعمالنا.

والعلاقة أيها الإخوة بين الإحسان والإتقان وطيدة فالإحسان أن نجمع بين الإتقان والرقابة ونحن نؤدي أعمالنا، ومدلول الرقابة في الإسلام أعمق وأقوى من تلك التي اصطَلح عليها علمُ الإدارة الحديث كأحد عناصر الإدارة الأربعة المعروفة، وهي: التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة، ولكن الرقابة في الإسلام رقابة ذاتية بالدرجة الأولى، نابعة من إيمان الفرد بالله، واستشعارِ رؤيته له، ومراقبتِه لعمله، وحين تترسخ هذه القيمة في النفس المؤمنة تنتج أعمالا في غاية الإتقان والإحسان.

ومدلول الإتقان يعني أربعة أشياء:

  • أداء العمل دون خلل فيه.
  • الالتزام بمتطلبات ذلك العمل من التقيد بضوابط وتقنيات معينة.
  • أداؤه في الوقت المحدد دون تأخير.
  • التفكير في تطوير ذلك العمل حتى لا يبقى العمل ضمن مستوى جامد.

ففي هذا العالم نجد أن بعض الأمم والدول تتقدم وتتفوق وتهيمن وتزداد هيمنة يوماً بعد آخر.. ولكن ما سر هذا التقدم وما سر هذه الهيمنة؟

لو بحثنا لوجدنا أن السر الأكبر يكمن في سيادة قيمة الإتقان في حياة تلك الأمة، فإتقان العمل نجده في مختلف مجالات الحياة: في العمل السياسي، والعمل الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وفي مختلف المجالات، ومُحَصَّلة الحالة العامة للإتقان هي هذا التقدمُ والتطورُ الذي يعيشونه في حياتهم.

وإذا بحثنا أيها الإخوة عن أسباب الإتقان، فسوف نجدها محصورة في هذه الأسباب:

السبب الأول: تركيز قدسية العمل في نفوس الأفراد: فبعض الأفراد يُنشَّؤون في أسرة إلى جانبها ثقافة سائدة في أجوائهم، كلاهما تربيان على أهمية العمل وعلى قدسيته، ولذلك ينشأ الإنسان على حب العمل فتنشأ علاقة داخلية بينه وبين عمله، فيمارس العمل كعاشق للعمل وهاوٍ له وراغب فيه، بينما بعض الأشخاص بالعكس من ذلك، إما لسوء تربيته أو لسوء ثقافته، فتراه يمارس العمل كحالة اضطرارية مثل من يشرب الدواء المر.

وإذا راجعنا التعاليم الإسلامية نرى أن الإسلام يربي أبناءه على حب العمل، وعلى الرغبة فيه، فالإنسان أصلاً إنما جاء إلى الدنيا من أجل أن يعمل، وأي لحظة تمر عليه من دون عمل فهي لحظة ضائعة سيندم عليها في حياته كما سيندم عليها يوم القيامة؛ لذلك نجد القرآن الكريم حينما يتحدث عن المؤمنين يقرن دائماً الإيمان بالعمل الصالح ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إذا لم يوجد عمل فالإيمان النظري المجرد لا فائدة فيه ولا قيمة له: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ لا تجد آية في القرآن تتحدث عن الإيمان إلا وتقرنه بالعمل الصالح.

السبب الثاني: وجود الحوافز المشجعة على إتقان العمل: فالمجتمعات التي تهتم بإتقان العمل توجد حوافز لذلك، بحيث أن من يتقن عمله يجد جزاء على ذلك، بينما في المجتمعات المتخلفة لا تجد ذلك، سواء أَعَمِلَ جيداً أم لا؟ الراتب هو نفسه، بل في بعض الأحيان في المجتمعات المتخلفة يكون المقياس هو المحسوبيات، عملت جيداً أم لم تعمل، حتى وإن عملت وأجهدت نفسك وبذلت طاقتك يأتي شخص آخر لم يعمل شيئاً لكن لعلاقته بهذا المدير أو بهذه الجهة يُقَدَّم عليك.

لقد شجع الإسلام على العمل، وجعل محفزات تشوّق الإنسان لفعل الخير وتشجعه عليه سواء في ذلك الأعمال الدنيوية أو الدينية: «لم يشكر الله من لم يشكر الناس» .

فالواجب عليك أيها المربي والمدير والمسؤول أن تشكر الذين يعملون معك وأن توجد لهم محفزات حتى يتشجعوا للعطاء وللتطوير، ففي المجتمعات المتقدمة يعرف الإنسانُ أن مستقبله ورتبته وراتبه ومكانته مرهون بإتقان العمل وإخلاصِه فيه؛ لذلك يجدُّ ويجتهد أكثر من أجل أن يحصل تلك المكاسب، وفي المجتمعات المتخلفة هذه الحالة غير موجودة، لكن بالطبع لا ينبغي أن تكون مبررا عند الإنسان المؤمن الواعي.

السبب الثالث: ضعف الوعي الحياتي والوطني والاجتماعي وانتشار اللامبالاة في كثير من القطاعات: فنحن نتساءل دائما: متى تتقدم هذه الأوطان؟ ومتى تتجاوز المجتمعات الحالة الراكدة التي تعيش فيها؟

في الواقع يحتاج ذلك تغييراً في نفس الإنسان لأن الله ﴿لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ من أين يبدأ التغيير؟

في كثير من الأحيان تظهر حالةُ ترامي المسؤوليات، فيقول الكبير: الصغير أولاً، ويقول الصغير: الكبير أولاً.. وتقول الحكومة: الشعب أولاً، والشعب: يقول الحكومة أولاً، وكذا العالم يقول: الجاهل أولاً، والجاهل يقول: العالم أولاً، وهكذا.

بينما التغيير يجب أن ينطلق من الجميع وإن كانت مراتب المسؤولية تختلف من شخص لآخر حسب مستواه، وحسب تأثيره، لكن الإسلام يعلمنا: إذا قصَّر الآخرُ في القيام بمسؤولياته فهذا لا يبرر أن أقصر أنا، «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ».

والإسلام يربي فينا: أن الإنسان يجب أن يجود بما عنده: إذا كان الآخرون لا يوجد في نفوسهم إخلاص وجدية ولا توَجُّهٌ لرضا الله سبحانه وتعالى، فهل أصبح أنا أيضاً مثلهم؟

كلا، لأن سياسة ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ سياسة خاطئة، كما أن الإنسان المؤمن في عمله يتوجه إلى ربه سبحانه وتعالى، ويفكر في آثار عمله في الحياة وفي المجتمع الذي يعيش فيه والوطن الذي ينتمي إليه، أضف إلى أن الأوطان إذا لم يخلص أبناؤها في عملهم لا تتقدم.

السبب الرابع: الجو العام الذي يدفع للإتقان: في بعض الأحيان يمكن أن يدخل موظف أو عامل في مكان وعنده روحية الإتقان، لكنه يرى التسيب فيمن يعمل معهم، فيتأثر بهم ويصبح واحدا منهم وتعمه حالة التسيب.

علينا أن نتواصى بإتقان العمل، ونجعلَ ذلك حالة عامة كما يقول القرآن الكريم: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، وعلينا أن نعلم أن الله رقيب على أعمالنا، كما أن الإسلام يوصينا بالإتقان.

يقول رسول الله : « إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه » . وفي نص آخر: « أن يحكمه » .

فإذا ما أتقن الناس كلهم أعمالهم فسوف يحصدون ثمرات تلك القيمة ويتذوقونها، ومن أجل تلك الثمرات:

. اكتساب الأمة المسلمة الإخلاص في العمل لارتباطه بالمراقبة الداخلية.

. تجريد العمل من مظاهر النفاق والرياء، فكثير من الناس يتقن عمله ويجوّده إن كان مراقَباً من رئيس له، أو قصد به تحقيقَ غايات له أو سعى إلى السمعة والشهرة لأنه يفتقد المراقبة الداخلية التي تجعله يؤدي عمله بإتقان في كل الحالات دون النظر إلى الاعتبارات التي اعتاد بعضهم عليها.

. الإتقان في المفهوم الإسلامي ليس هدفاً سلوكياً فحسب، بل هو ظاهرة حضارية تؤدي إلى رقي الجنس البشري، وعليه تقوم الحضارات، ويعمر الكون، وتُثْرى الحياة وتنتعش، ثم هو قبل ذلك كلِّه هدف من أهداف الدين يسمو به المسلم ويرقى به في مرضاة الله والإخلاص له، لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، وإخلاص العمل لا يكون إلا بإتقانه.

أيها الإخوة المؤمنون: لو ألقينا نظرة على هذه القيمة في حياتنا وتصرفاتنا وأعمالنا لوجدنا أن الأمور سيئة جدا، فاللامبالاة والتسيب والرداءة وهز الأكتاف في مقابل المطالبة بالحقوق واستيفاء الأجور بدون إتقان الأعمال، وهو واقع لا داعي لضرب الأمثلة عليه، فكل واحد من الحاضرين يحمل ألف قصة وألف من هذا الواقع.   

وفي الختام: يجب أن تسود قيمة الإتقان كل حياتنا، وأول عمل يتطلب الإتقان في حياة المسلم هو الصلاة، فالمسلم في الصلاة يتقن عدداً من المهارات المادية والمعنوية، فإقامة الصلاة وما يُطلب فيها من خشوع واستحضار لعظمة الخالق، وطمأنينة الجوارح، وتسوية الصفوف، ومتابعة الإمام، ثم ممارسة الصلاة خمس مرات في اليوم، كل هذه من الممارسات التي تتطلب التعود على الإتقان حتى تنتقل هذه العادة من الصلاة إلى سائر أعمال المسلم اليومية دنيوية أو أخروية.

أيها الإخوة المؤمنون: إني داع فأمنوا: اللهم لا تدع لنا – في مقامنا هذا - ذنبا إلا غفرته ولا دينا إلا قضيته ولا كربا إلا كشفته ولا هما إلا فرّجته ولا ميتا مسلما إلا رحمته ولا مسلما مسافرا إلا كتبت سلامته ولا طالب علم إلا أرشدته ولا خيرا إلا قربته ولا شرا إلا أبعدته ولا حاجة من حوائج الدنيا والاخرة لك فيها رضا ولنا فيها صلاح إلا ألهمتنا لقضائها بتيسير منك.

اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.

إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، إن الله وملائكته يصلون على النبيء يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما، فصلوات ربي وسلامه على حبيبه وصفيه محمد r وعلى آله وأصحابه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

خطبة الجمعة ليوم 28 ربيع الأول 1437 هـ/ 08 جانفي 2016.

 

لايوجد تعليقات

أضف تعليقا للموضوع : الإتقان ثمرة الإحسان