نحو منظومة تربوية أرشد

  • نحو منظومة تربوية أرشد

خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وجهّزه بوسائل الإدراك والتعلم والتمييز، وركّب فيه غريزة حب الاطلاع والاستكشاف؛ قال الله تعالى: )وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( [النحل: 78]. ثم تعهده بالتوجيه بإنزال الكتب وإرسال الرسل؛ قال تعالى: )هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ( [الجمعة: 02].

وهكذا درجت المجتمعات الإنسانية على تطوير وسائل اكتساب العلوم والمعارف وتطويرها وإثرائها وتوارثها عبر الأجيال، إلى أن استقر بها الأمر في العصر الحديث على منظومة تربوية تعارفت عليها الدول في هذا العصر، تنقسم في الغالب إلى ثلاث مراحل دراسية (التحضيري، الأساسي -وهي مرحلة التعليم الإلزامي، الثانوي) وتُقدَّم فيها جرعات متدرجة من المعارف والقيم والمهارات، تنتهي بإعداد الطالب للولوج لبوابة الجامعة التي تمثل مرحلة البحث العلمي المتخصص، أو تقف به على عتبات سوق العمل ليشق مشواره المهني.

وقد تطورت هذه المنظومة ولا تزال بفضل بحوث ودراسات ونظريات تربوية عديدة عبر العالم، مست مختلف جوانبها: فلسفة المنظومة التعليمية وأهدافها، المناهج وطرق التدريس، النظم التربوية والإدارية... وكثيرا ما سلطت نتائج هذه البحوث والدراسات الأضواء على مكامن الضعف في هذه المنظومة التربوية العالمية، وصاغت الخطط التطويرية لها، ولكن؛ في واقع الأمر، فإن كلمة الفصل في وضع هذه الخطط قيد الفعل كان بيد مصالح سياسية ومهنية وإيديولوجية([1])، لذا فإن المتأمل في هذه المنظومة ومخرجاتها لا بد وأن يتساءل: ألا يمكن صياغة منظومة تربوية أكثر رشدا؟

  1. منظومة تعنى أكثر بغرس القيم وتعديل السلوك وبناء الفكر وتزكية الروح.
  2. منظومة تستثمر عُمُر الطفل أفضل استثمار، وتختزل جرعات المعارف المقدمة في أوجز مدة زمنية.
  3. منظومة ذات مناهج علمية رصينة لا تشوبها نوازع إيديولوجية أو سياسية أو اجتماعية.
  4. منظومة ثرية المعارف، متحكمة في اللغات والرياضيات.
  5. منظومة ذات مردودية عالية تتطابق مخرجاتها مع أهدافها التربوية المسطرة إلى أبعد حدٍّ في الكمال.
  6. منظومة ذات مصداقية في نظم التقويم والترقية.
  7. منظومة متفاعلة مع البيئة الاجتماعية والاقتصادية، بل هي محورها وركيزتها.
  8. منظومة متناغمة مع الفطرة التي فطر الله عليها البشر، تربي الأجيال على عبادة الله وتؤهلهم لعمارة الأرض وصلاحها. وهذا هو المطلب الأول والأخير من كل منظومة تربوية تهدف إلى إسعاد البشرية وفلاحها.

نعم، يمكن الارتقاء بمنظومتنا التربوية إلى أعلى مراتب الرشد انطلاقا من الإيمان الراسخ لجميع شرائح الأمة بضرورة التغيير وإعطاء الأولوية القصوى للتربية والتعليم، ثم بتظافر الجهود لتحقيق خطة تنموية شاملة لجميع جوانب المنظومة التربوية تصاغ وتبنى على تقوى الله وابتغاء رضوانه، ويمكن رسم ملامح أولية لهذه الخطة في النقاط الآتية:

أولا: استثمار الحضن التربوي الأسري، إذ إن التربية الفعالة تبدأ من مرحلة الجنين وتمتد على مدى خمسة أعوام، وهي المرحلة الحاسمة في بناء شخصية الطفل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» [متفق عليه].

لذا فإعداد الحضن التربوي الأسري وتكوينه واستثماره فيكون من خلال:

  1. إعداد مناهج لترقية الفكر وتصحيح التصور، ومناهج أخرى في مهارات التربية الصحيحة، تقدم للآباء والأمهات في دورات تكوينية قبيل الزواج وبعده، حتى يُحتَضَن الطفل المنتظَر في بيئة صالحة، وينشَّأ تنشئة سليمة.
  2. إعداد مناهج تربوية بيتية لاستثمار فترة ما قبل التحضيري، يتولى تنفيذها الأبوان بعد تدرّبهما على ذلك.

ثانيا: ترقية المنظومة التربوية إلى سن البلوغ؛ من خلال:

  1. إعادة صياغة المناهج التربوية الخاصة بهذه المرحلة في مختلف موادها ومعارفها.
  2. التنظير لبيئة مدرسية نظيفة ومثمرة، بتوزيع زمني مقتصد في الوقت مستثمر له.
  3. إعداد برامج علمية تربوية لاكتشاف المواهب والقدرات وبناء الشخصية.

ثالثا: ترقية المنظومة التربوية إلى سن الرشد؛ من خلال:

  1. إعداد مناهج متخصصة حسب الجنس (الذكور - الإناث).
  2. إعادة النظر في الشعب التخصصية للمرحلة الثانوية ونظام التوجيه المدرسي.
  3. إعداد مناهج علمية ومهاراتية للاستعداد للحياة الجامعية والمهنية.
  4. صياغة مناهج فكرية حضارية لتأصيل الهوية وترقية الفاعلية.

أما طريقة تفعيل هذه الخطة وآليات تنفيذها، فأقترح الآتي:

  1. إنشاء مخابر للدراسات التربوية والتطوير البيداغوجي، ومنتديات للمعلمين والمربين.
  2. تعزيز التعاون وتكاثف الجهود وتكاملها بين العاملين في قطاع التربية والتعليم.
  3. تأسيس جمعيات تربوية متخصصة في تأهيل الشباب والفتيات لبناء الحضن التربوي الأسري على تقوى الله، وهذا كمرحلة قبلية لنشاط مؤسسات التعليم التحضيري.
  4. استقطاب أفضل الطاقات والموارد البشرية لمهنة التدريس، وهذا بعد ترقية نظرة المجتمع إليها كونها أشرف المهن، كيف لا وهي مهنة الأنبياء الذين اصطفاهم الله لهداية البشر.

لقد باشرت مؤسسة الشيخ عمي سعيد المصونة برنامجا للتقويم والاستشراف التربويين بمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيس معهدها المبارك، أرادت من خلاله رفع الوعي بأهمية المنظومة التربوية الراشدة في رقي الأمة وحضارتها، وتهيئة الفرصة للعلماء وخبراء التربية لتقويم تجربة المؤسسة والتخطيط لتطويرها وتقديمها نموذجا عمليا للاقتباس والاقتداء. لكن برنامجها تعثر بسبب الأزمة التي طالت ربوعنا وطال أمدها. مع ذلك فإن وعد الله حق؛ قال تعالى: )إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً( [الشرح:06].

ولعل من اليسر أن بوادر خطة طموحة لمنظومة تربوية أرشد قد هيأ الله العليم الحكيم أسبابها في هذه الربوع الطيبة، وأخرجها من رحم الأزمة، وقد كان منطلقها ازدياد وعي المجتمع بأهمية قطاع التربية والتعليم وأولويته، والإيمان بحتمية تضحية جميع شرائح الأمة من أجل احتضان المنظومة التربوية، كل حسب طاقته وتخصصه.

ومن اليسر بعد العسر ما نشهده من شبابنا وطلبتنا بهذا المعهد المبارك من حراك ثقافي ونشاط تربوي وإنتاج فكري، حيث نجدهم قد جدوا واجتهدوا لاستدراك ما فاتهم من إنجازات خلال الموسم الماضي، بل قد أبدعوا وطوروا، فأحسنوا وأجادوا، وهاهم يختمون موسمهم الدراسي المثمر بإصدار العدد الثاني والأربعين من مجلتهم المدرسية (الأصالة والثقافة)، وهو عدد خاص بهذا الموسم، لما يتضمنه من حصاد (المسابقة الثقافية الكبرى)، ويحتضنه من إسهامات ثقافية وفكرية وأدبية، وتحقيقات وسير ذاتية لشخصيات رحلت عنا مؤخرا وتركت بصماتها في هذا المجتمع الذي كثيرا ما حُسد على ميزة أبنائه في التضحية ونكران الذات وتغليب مصلحة الجماعة، كل ذلك في استقامة وتناغم مع شرع الله وتعاليمه السمحة.

وإن لهذا العدد من مجلتنا المدرسية خصوصية أخرى عندي، فهو يضم بين صفحاته ترجمة عن والدي "الحاج قاسم بن باحمد" -رحمه الله-، الذي أحسستُ بمرارة اليتم بعد رحيله إلى دار البقاء في هذا الشتاء القاسي، وهذا رغم تجاوزي لعمر الصبا بعقود كثيرة، لما كان له من حضور قوي في حياتي وإلهام لي في عملي ونشاطي، رحمه الله وجميع المسلمين، وتقبل من كل من وقف معنا مواسيا ومُعزّيا، وأثابهم خيرا جزيلا وجمعنا في دار الجزاء على سرر متقابلين. آمين والحمد لله رب العالمين.

غرداية يوم: 02 رمضان 1436هـ/ 19 جوان 2015م

 


[1]- مثال على الدراسات التي اصطدمت بالقناعات الإيديولوجية: قضية الاختلاط في المدارس، ولعل من أهم الدراسات التي تبرز خطأ الاختلاط وخطورته ما خطه الباحث المفكر الفرنسي "ألكسيس كاريل" الحائز على جائزة نوبل في الطب عام 1912م في كتابه "الإنسان ذلك المجهول"، لكن لا حياة لمن تنادي.

لايوجد تعليقات

أضف تعليقا للموضوع : نحو منظومة تربوية أرشد