العلم وبناء الحضارة

  • العلم وبناء الحضارة

  • مقدمة:

يعتبر العلم مادة أولية لبناء الحضارة والتقدم والتنمية عند الشعوب، قديما كان ذلك أو حديثا. فهل العلم وحده عنصر كاف لتشييد هذا البناء؟ أم إنه شرط غير كاف؟ وإذا كان ذلك فما هي العوامل والشروط اللازمة لدعم هطا البناء؟

  • العرض:

للعلم مكانة ودور عظيم في البناء الحضاري وتقدم الأمم، فهو مصدر كل تقدم حققته الإنسانية على أصعدة متعددة تُظهر بوضوح قيمته وسمو مكانته، منها:

- تيسير المعرفة وتفسير الظواهر ومحاربة الجهل:

فالعلم يكاد يستغرق جميع جوانب الحياة الإنسانية وبيئته الاجتماعية والمادية في إطار معرفي منظم وممنهج، وينمو باستمرار، وموجه نحو أهداف.

ومن هنا كانت قيمة العلم الجوهرية هي العمل على تفسير الظواهر، ومعرفة عللها وأسبابها وملابساتها، وهذا ما أعطى الإنسان قدرة وزيادة في تأثيره على الطبيعة وفهم القوانين المنظِّمة للكون وتسخيرها بوعي إيجابي بناّء،وعمل على تقويض أركان الجهل ومعالم الخرافة وطرق التوحش وبناء صرح المدنية والتحضر،فقد تمكن الإنسان بفضل العلم من التحكم في الظواهر الطبيعية المختلفة والسيطرة عليها والتمكن منها ومواجهة حتمياتها وتسخيرها لفائدة الإنسان، كما مكّنه من التنبؤ بالظواهر، ورصد حدوثها في المستقبل، وضبط ظروفها من أجل تحقيق أغراض علمية تخدم الإنسان وحضارته وتمدّنه.

- خدمة الإنسان وتيسير الحياة:

فالإبداعات التقنية الحديثة، واستعمال الآلة اليوم قد غير الوجه الطبيعي للحياة والإنسان، فقد اعتمد عليها الإنسان في أغلب نشاطاته ومكّنته من تطوير مستوياته الصناعية والزراعية، وزيادة كميات الإنتاج وسرعته، مع قلة الجهد والتعب، كما استُخدمت في مجال الطب والجراحة، وفي الأعمال المنزلية والترفيهية والمواصلات... كلها في خدمة  وتيسير حياته.

 كما أن العلم وطرقه ونتائجه تفتح بصائر الإنسان لفهم أعمق للدين والعقيدة والكون ومَن خلَقه،والاستخلاف في الأرض على بصيرة إذا أحسن استخدامه وتوجيهه لأن الإكثار من العلم تقرب الى الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد»[رواه الترمذي وابن ماجة].إذن فكل هذه المعاني والصور تدل على القيمة البنّاءة للعلم ووجهه الإيجابي وقدرته الحضارية.

- (التاريخ)يشهد لصالح (العلم):

وإذا أتينا من جهة الواقع وما شهده التاريخ حول قيمة العلم في البناء الحضاري فنجد أنه لا توجد حضارة بنيت على الجهل عبر التاريخ؛ فالعرب قبل الإسلام كانوا في جاهلية مظلمة يعيشون قانون الغاب، فكثرت بينهم الحروب، ولم يستطيعوا أن يأسسوا حضارة، وعندما جاء الإسلام حرّرهم من قيود الجاهلية، وكان أول ما جاء به هو الحث على القراءة وطلب العلم، وبذلك تمكن العرب من بناء حضارة عظيمة في زمن وجيز؛ بنيت على العلم فأصبحت تتفوق على الحضارات الأخرى؛ كحضارة (الفرس) و(الروم)،  وأصبحوا بعد ذلك أسياد الأمم بعد أن كانوا أراذلها، فكانت هناك حركة علمية كبيرة ظهر منها علماء عرب مسلمون أبهروا العالم بما توصلوا إليه من علوم واكتشافات في شتى المجالات، وما شيدوه من حضارة في مختلف أنحاء الأرض؛ كحضارة (العراق) و(الأندلس) ...

كما أنه لدينا نموذجان متعاكسان من المجتمعات يوضحان قيمة العلم في بناء الحضارة؛ وهما المجتمع (الياباني) والمجتمع (الإفريقي)، فرغم تساويهما في الظروف التي سببتها القوى الاستعمارية في القرن العشرين من تحطم في البنية القاعدية بسبب الحرب، إلا أن ذلك كان حافزا لليابان لتغيير وضعها ببناء دولة أساسها العلم، فأصبحت بذلك دولة قوية اقتصاديا تصنف ضمن الثالوث الاقتصادي العالمي بعد (الولايات المتحدة) و(الاتحاد الأوروبي)، وهذا رغم الظروف الطبيعية الصعبة من زلازل وفيضانات، ورغم الفقر من حيث الموارد الطبيعية، إلا أن اليابانيين لم يستسلموا لتلك الظروف، بل تحدَّوها واستغلوا نقاط القوة لديهم حتى توصلوا إلى ماهم عليه اليوم من التقدم العلمي والتكنولوجي.

وعلى عكس ذلك فقد كانت المجتمعات الإفريقية غنية من حيث الموارد الطبيعية، لكن لم يمنعها ذلك من أن تكون ضمن الدول المتخلفة اقتصاديا بسبب تخلفها الفكري والعلمي، فأصبحت دولا تابعة للدول الكبرى من حيث الاقتصاد، وأصبحت الدول الكبرى تمارس عليها سيطرتها، وتمارس الضغوط السياسية عليها حتى أصبحت مستعمرة بشكل غيرمباشرلتلك الدول، وكل هذه المشاكل كان السببَ الرئيسي فيها التخلفُ العلمي، وأصبحت بذلك تصنف ضمن الدول النامية ودول العالم الثلاث.

وقد كانت (أوروبا) أيضا قبل عدة قرون تعيش العصور السوداء عندما كانت الحضارة الإسلامية في أوْجِها وكمال قوتها وعصرها الذهبي، فبعد ثورة فكرية قامت بها (أوروبا) للتحرر من الجهل وسيطرة رجال (الكنيسة) تمكَّن الأوروبيون من قلب الموازين لصالحهم، فأخذو العلوم من العرب المسلمين عندما بدأوا يتقهقرون، فبنى الأوروبيون حضارتهم على أنقاض الحضارة الإسلامية وعلى أسس ومقدّمات علمية تخلى عنها المسلمون، وهي تعرف الآن بالحضارة (الغربية).

ونجد أن الدول المتقدمة علميا لا يمكن لها أن تكون متخلفة اقتصاديا، لأن العلم قوة يمكن لها أن تُطور من شتى مجالات الحياة، ولذلك كان العلم أساسا لبناء الحضارات وتقدم الأمم،وسببا رئيسا في قوتها واستمرارها، وفقدانه يسبب ضعفها وسرعة سقوطها واضمحلالها.

- معايير (العلمية)والقيم (الأخلاقية):

لكن رغم أهمية العلم في بناء الحضارة إلا أن هناك عوامل أخرى تتحكم في هذا العامل وتدعمه، فالعلم سبب التقدم الحضاري، ولكن من جهة أخرى هو سبب لتشكيل إنسان يعاني من فراغ روحي تحكمه معايير (مادية) تسبب له الحيرة والقلق، وهذا ما يجعل مسيرة العلم عرجاء وغير متوازنة، فالعلم الذي يُسهّل الحياة المادية لم يمنح الإنسان الطمأنينة والرضى خاصة بعد ظهور الأسلحة الفتاكة والإقدام على استعمالها والتسابق للازدياد منها.وما يمكن استنتاجه من كل ما تقدم "أن العلم يمكن أن يكون وسيلة لكل خير، كما يمكن أن يكون وسيلة لكل شر"، فالعلم أداة ذات حدين يمكننا استعمالها في بناء سعادتنا، كما يمكن أن نجعلها سببا لشقائنا، فهو محايد لا يمكن أن نحكم عليه بالخير أو الشر، لذلك فالإنسان هو المسؤول عن استعمالات العلم وما يترتب عنه من نتائج.

- فرصة العالم (الإسلامي) من (العلم):

مما يدل على محدودية العامل العلمي واقعيا وتاريخيا ما يشهده العالم الإسلامي من انحطاط رغم أنه كان حضارة رائدة حققت طفرة كبيرة في شتى العلوم، كما أن العالم الثالث رغم توفره على الأدمغة إلا أنه لم يتمكن من التقدم والتنمية.

إن من العوامل المرافقة للعلم من أجل بناء أمة مزدهرة العاملُ(المادي) الذي يتمثل في المال والثروات، فغياب تمويل البحوث العلمية والمشاريع مثلا سيؤدي إلى هجرة الأدمغة إلى حيث تجد من يمولها ويأخذ بيدها في مكان يولي أهمية كبيرة ويخصّص أموالا طائلة للمشاريع العلمية والبحوث الخاصة به.

كما ستُمكنالعدالةُ والحريةُ الفكريةالإنسانَ من الإبداع والتطوير والمضيّ قدما نحو بناء أمة متحضّرة، ومما يدل على أهمية  هذا العامل في دعم العامل العلمي ضعفُ العصرِ(العباسي) بعد أن كان في مرحلة ما يسمى بالعصور الذهبية في الإسلام، فكان السببُ الأول في هذا الضعف اضمحلالُ العدل والطغيانُ الفكري في أواخر هذا العصر.

ومن أهم العوامل وأكثرها فعالية في دعم العلم لبناءحضارة متوازنة هو شرط الأخلاق والقيم النبيلة التي تجعل الإنسان يفكر في المصلحة العامة ويفضلها على المصلحة الخاصة، كما ترفعه عن مستوى الغرائز الدونيّة كالطمع والعدوانية إلى مستوى القيم الإنسانية والدينيةوالأخلاقية، فغياب الضمير الوطني والخلقي يؤدي إلى العمل في غير الصالح و إلى إيثار المغريات المادية والطمع حساب تنمية القدرات الوطنية، ويظهر أثر غياب هذا العامل في الأمة كلها، والمصيبة تكون أفْدَحَ إذا كان مفتَقَدا عند قادتها ووُلاّت أمرها حيث سيأخذون بها إلى الهاوية وإلى ما لا تحمد عقباه، يقول الشاعر:

إنما الأمم الأخلاقُ ما بقيت           فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وهناك عامل لا يقل أهمية عن سابقيه وهي قيمة العمل التي بدونها لا يكون للعلم قيمة، والعمل هو ثمرة العلم والغاية فيه، فهو قيمة حضارية وهوالغاية من وجود الإنسان، وهو الأثر الذي يبقى بعد فنائه، لذلك نجد بعض الأمم التي تُقدِّس العمل وتعتبر عبادة كـ(ألمانية) بعد الحرب العالمية الثانية و(الصين) و(ماليزيا) حققت في زمن قصير ما لم تحققه الأمم الأخرى عبر قرون، رغم الصعوبات التي واجهتها هذه الدول والظروف الصعبة التي كانت تعاني منها، فأصبحت اليوم مضرب المثل في قيم العمل.

  • الخاتمة:

تناول العرض المواضيع التالية: مكانة العلم وأهميته، وقدم شواهد وأمثلة واقعية وتاريخية على دوره الحضاري، وتناول الجزء الثاني منه محدودية العلم والعوامل الأخرى التي تدعمه في بناء حضارة وأمة مزدهرة، وقدم على ذلك شواهد وأمثلة واقعية وتاريخية مقنعة.

فمن خلال العرض نستنتج أن العلم عنصر حضاري مهم، لكنه غير كاف، فهو شرط يتطلب شروطا أخرى داعمة له، ومن العوامل التي تدعم العلم؛ العامل المادي، والعامل الأخلاقي، والعدالة والحرية الفكرية.

كما أنه يجب على الإنسان أن يفهم بأن العلم حكمة وأداة عمل ومسؤولية تجاه ذاته وغيره والكون، ويجب عليه تنشيط فلسفة القيم ومخاطبة الروح وإنسانية الإنسان حتى يحقق مبادئه ولا يتعدى حدوده، فيحقق بذلك خدمة للإنسانية جمعاء.

عبد الوهاب بن محمد علوط

الثالثة ثانوي علوم تجريبية

لايوجد تعليقات

أضف تعليقا للموضوع : العلم وبناء الحضارة